الرئيسية / خاص / الإنترنت!!… تاريخ من الصراع على السيطرة
Internet Governance

الإنترنت!!… تاريخ من الصراع على السيطرة

بقلم: نور محمد *

استطاعت الشبكة العالمية للمعلومات “الانترنت”خلال العقدين الماضيين أن تصبح على الصعيد الاقتصاديوالاجتماعي، وكذلك السياسي، واحدة من أهم البنى التحتية التنموية والعمرانية لمجتمعاتنا الحالية نظرا للخدمات التي تقدمها، والتدفق المعرفي والمعلوماتي العابر ضمنها، والنتائج المتعددة الجوانب والاتجاهات.

ومع تزايد أهمية شبكة الإنترنت تولدت أزمة ضلت لأعوام طويلة كامنة في دوائر التقنينيين والفنيين والمهندسين حول هيكلية هذه الشبكة وهندستها وكيفية انتشارها وتركيبها، وكذلك إدارتها وحوكمتها، وتفاقمت هذه الأزمة لتتحول إلى موضوع تجاذبات وخلافات بدأت صامتة ودفينة، بين مختلف الفرقاء الاقتصاديين والصناعيين والمنتفعين، وانتهت إلى مستوى صراعات سياسية دولية علنية على خلفية التحكم السياسي والاقتصادي بهذه الشبكة نظرا لكون شبكة الإنترنت لا تخضع لإدارة منظمة عالمية مثل شبكة الهواتف التي تدار من قبل “الاتحاد الدولي للاتصالات”الذي تأسس عام 1865، بل يتم إدارة شبكة الإنترنت من قبل مؤسسة خاصة غير حكومية تُسمى مؤسسة الإنترنتللأسماء والأرقام المخصصة ICANN “الأيكان”والتي انشآتها الولايات المتحدة في عام 1998 لتتولى جميع مهام الانترنت، والأيكان أوكلت بدورها الكثير من المهام التنفيذية والوظائفية لمنظمة خاصة أخرى هي الأيانا IANA. ومن هنا برز الجدل حول قضية تشغيل وإدارة الإنترنت أو ما يعرف “بحوكمة الإنترنت” كقضية مركزية باتت تخلق نزاعاً حقيقيًّا وصداما في المنظورات بين القوى العالمية  وتحول التنافس التكنولوجي إلى نزاع دبلوماسي جديد بين الأحادية الأمريكية والتعددية العالمية فواشنطن تعمل على منع الحكومات الراغبة في نقل الإنترنت من تحت السيطرة الأمريكية ممثلة بمنظمة “الأيكان”الغير حكومية إلى سيطرة دول وحكومات أخرى أو إلى مؤسسة دولية عالمية أو مجلس عالمي للانترنت كما كان قد اقترحها الفريق المكلف من الأمم المتحدة لمناقشة إدارة الانترنت.

جنيف 2003 … من هنا كانت الشرارة.

في بداية الألفية، أفصحت العديد من الحكومات حول العالم عن رغبتها في إخضاع شبكة الإنترنت إلى اتفاقية دولية، متعددة الأطراف، على غرار شبكة الهواتف، لأنها ترى أن منظمة “الإيكان”ماهي إلا أداة للهيمنة الأمريكية. إذ تتمتع واشنطن بسلطة فوقية على المنظمة في حين لا تتمتع لجنة المستشارين التابعة للمنظمة -المؤلفة من ممثلين من دول أخرى – بأية صلاحيات حقيقية.  وقد وصلت ذروة ذلك النزاع في مدينة “جنيف”السويسرية في ديسمبر 2003، التي استضافت القمة العالمية لمجتمع المعلومات WSIS ، والذي استُكملت مرحلته الثانية في تونس نوفمبر 2005. ومن أبرز الدول التي تعالت أصواتها ضد منظمة “الإيكان”آنذاك كانت البرازيل، التي تعتمد بنسبة 90% على الإنترنت لجمع الضرائب، وجنوب إفريقيا والصين وكوبا وسوريا وزيمبابوي وفرنسا.

وقد بدا من الواضح حينها أن تلك الدول ترفض خضوع مثل هذه الأداة، التي تُوظف في تسيير عجلة الاقتصاد والمجتمع وحتى الحكومة خارج سيطرتها، خاصةًَ إذا كانت سيطرة وهيمنة الولايات المتحدة هي البديل الوحيد. لهذا نادت العديد من الدول بضرورة انتقال إدارة وحوكمة الإنترنت من السيطرة الأمريكية إلى حكومات الدول والإدارات الرسمية العامة التي تمثلها، وهو ما أثار مخاوف العديد من المنظمات المدنية حول احتمالية تمكين الحكومات الدكتاتورية من انتهاك حقوق الإنسان و مصادرة حرية التعبير لمواطنيها من خلال سيطرتها على الإنترنت.

تونس 2005… تدشين مبادرة المنتدى العالمي لحوكمة الإنترنت.

ومع اشتداد الصراع حول إدارة شبكة الإنترنت والتناقض الحاد بين المطالب الدولية بتدويل الشبكة وبين التشدد الأمريكي الرافض للتنازل عن سيطرته على شبكة الإنترنت – وهو ما أعلنته الأخيرة جلياً عبر وزارة التجارة الأمريكية في يونيو 2005 – ظهر مسار وسطي ثالث بدأ منذ إعلان ماعرف لاحقا “أجندة تونس”عام 2005، المنبثق عن أعمال القمة العالمية لمجتمع المعلومات (WSIS 2005)، والمتمثل بالمنتدى العالمي لحوكمة الإنترنت (IGF)، والذي يعترف بأن لكل الفرقاء، ولكل الشركاء، ولكل “أصحاب المصلحة” والمنفعة، سواء من القطاع الخاص أو القطاع العام أو الجمعيات الناشطة في المجتمع المدني، دوره وحقه المشروع في إدارة وحوكمة الإنترنت على قدم المساواة. وهو ما بات يعرف بمصطلح أصحاب المصلحة المتعددين multistakeholder في قضايا حوكمة الإنترنت. وعلى مدى العشر سنوات الماضية عقد المنتدى العالمي لحوكمة الإنترنت اجتماعات سنوية ثابتة جمعت أصحاب المصلحة للتشاور حول سياسات إدارة الإنترنت على المستوى الدولي، كما نشأت لاحقا العديد من المنتديات الإقليمية والمحلية المماثلة في أنحاء العالم ومنها المنتدى العربي لحوكمة الإنترنت الذي انطلقتأولى اجتماعاته في عام 2012 في الجزائر تحت إشراف ورعاية الأمم المتحدة ممثلة بالإسكوا وجامعة الدول العربية.

أمريكا 2013… قضية سنودن، علامة فارقة في تاريخ الصراع حول إدارة الإنترنت.

في يونيو 2013، قام إدوارد جوزيف سنودن، وهو متعاقد تقني أمريكي وعميل موظف لدى وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية CIA ، بتسريب تفاصيل  برنامج تجسس رقمي يسمى “بريسم” مصنف بأنه سري للغاية يُشّغل من قبل وكالة الأمن القومي الأمريكية NSA ، إلى الصحافة العالمية. وتصف المستندات المسربة بريسم بأنه برنامج يتيح مراقبة معمقة للاتصالات الحية والمعلومات المخزنة. ويتيح إمكانية استهداف أي عميل لشركة منخرطة في برنامج بريسم، في حال كان هذا العميل يسكن خارج الولايات المتحدة، أو كان مواطنًا أمريكيًا له اتصالات تتضمن محتويات وب خاصة بأشخاص خارج الولايات المتحدة. البيانات التي يقال أن بريسم يمكنه الحصول عليها تتضمن، رسائل البريد الإلكتروني، ومحادثات الفيديو والصوت، والصور، والاتصالات الصوتية ببرتوكول الإنترنت، وعمليات نقل الملفات، وإخطارات الولوج وتفاصيل الشبكات الاجتماعية. وقد خول البرنامج الوكالة الاستخبارية الأميركية اختراق الرسائل الالكترونية، والأحاديث الالكترونية الشات والمكالمات الصوتية وغيرها من الوثائق لأشخاص في الخارج وفي الداخل الأميركي. كما كشفت الوثائق المسرّبة أن وكالة الأمن القومي كانت قادرة على الدخول مباشرة إلى الخوادم الخاصة لكل من مزوّدي الخدمات الأميركية: مايكروسوفت، ياهو، غوغل، آبل، فيسبوك، يوتيوب، سكايب، آي أو إل، وبالتوك. وبالإضافة إلى التواصل الالكتروني والملفات المحفوظة داخل خوادم أجهزة الكومبيوتر، وقد كشفت التسريبات أيضاً أن الوكالة الاستخباراتية كانت تتجسس على الاتصالات الهاتفية لعشرات ملايين الأميركيين من حاملي خطوط شركات الاتصالات. هذا وقد وجه القضاء الأمريكي لسنودن رسميا تهمة التجسس وسرقة ممتلكات حكومية ونقل معلومات تتعلق بالدفاع الوطني دون إذن والنقل المتعمد لمعلومات مخابرات سرية لشخص غير مسموح له بالاطلاع عليها.

شكلت الأسرار والمعلومات الحساسة التي أفضى بها سنودن إلى الرأي العام العالمي صدمة كبيرة أدت إلى اهتزاز ثقة المستخدمين وأصحاب المنفعة بالنموذج القائم لإدارة شبكة الإنترنت وبالمؤسسات والهيئات العاملة على إدارة هذه الشبكة والتي تدور تخضع جميعها لسيطرة الإدارة الأميركية وخاصة منظمة الأيكان المرتبطة منذ العام 1998 بعقد عمل مع وزارة التجارة الأميركية يرعاه ويحدد قواعده وأصوله القانون التجاري في ولاية كاليفورنيا. ولم يقف الأمر عند إثارة مخاوف المواطنين والمستخدمين للانترنت في كافة دول العالم، بل تعداه ليصل إلى الصناعيين ومشغلي الخدمات وشركات التكامل الخدماتي والمستثمرين وأصحاب القرار والمسئولين السياسيين لدى الدول الذين وصلوا إلى مرحلة فقدان الثقة والخوف على أمن المعطيات وحماية الحياة الخاصة العائدة لهم، ولمجتمعاتهم وشعوبهم، وكذلك إلى اتخاذ التدابير لحماية الأمن الاقتصادي والأمن القومي.

تفاقمت ردود الأفعال الدولية حيال هذه التسريبات للحد الذي طالب فيه العديد من المسئولين السياسيين والاقتصاديين في مراكز القرار في بعض الدول العظمى بإعادة النظر بهيكلية وهندسة شبكة الإنترنت، وكذلك بالهيئات العاملة على إدارته، كما ترك الأمر أصداء عالية وشديدة الأثر لدى هيئات المجتمع المدني ولدى الناشطين في مجال حماية الحريات والحياة الخاصة، وكذلك لدى مجالس النواب ومجالس الشيوخ، ولدى المجالس الاجتماعيةوالاقتصادية في مختلف دول العالم دون تمييز. لقد برزت مجددا المطالب بضرورة التفكير الجدي في تغيير أسس حوكمة شبكة الإنترنت العالمية وإدارتها، واستبدال النموذج القائم حاليا بما يؤدي إلى انتقال عملية إدارة الإنترنت من منظمة الأيكان الأميركية إلى مؤسسة عالمية يحكمها مجلس إدارة عالمي موحد، على غرار منظمة الصليب الأحمر الدولي.

البرازيل 2014 … مبادرة نت مونديال.

في أبريل 2004، تم إطلاق مايعرف بمبادرة “نت ومنديال” Net Mundial إثر انعقاد المؤتمر العالمي الذي دعت إليه رئيسة البرازيل في مدينة سان باولو البرازيلية لمناقشة حوكمة الإنترنت عقب الفضيحة المزلزلة لتسريبات سنودن. وقد شاركت الدول الكبرى صاحبة حق النقض في مجلس الأمن في هذا المؤتمر بالإضافة إلى ممثلي 87 بلدًا وأكاديميين ومؤسسات تقنية ولاعبين خاصين ومنظمات. حرصت المبادرة على صياغة مبادئ حوكمة وخارطة طريق جديدة للإنترنت يقرها للمرة الأولى معظم الفاعلين على الشبكة. واتفق المشاركون على مبدأ الإدارة المتعددة للشبكة من أجل ضمان فعاليتها وشرعيتها. ومن خلال هذه المقاربة فإن حوكمة الإنترنت يجب أن تسعى نحو شبكة مستقرة لامركزية مضمونة ويمكن للجميع الاتصال بها. تحسست الإدارة الأميركية حجم المشكلة وطبيعتها. وقامت بإعلان مبادرتها وقف العقد القائم بينها وبين منظمة الأيكان خلال النصف الثاني من العام 2015. وبادرت إلى إطلاق مرحلة تحضيرية انتقالية بهذا الشأن، معلنة في مارس من العام 2014 عن نواياها بنقل بعض وظائف منظمة الأيانا إلى جهة مستقلة يقررها أصحاب المنفعة. كما أعلنت منظمة الأيكان أنها سوف تكون تحت طائلة المساءلة بكل أنواعها. ومع أن المبادرة رمزية، إلا أن قمة «نت مونديال» رحبت بها مع التشدد على أن عولمة وتدويل منظمة الإيكان يجب أن تؤدي إلى إقامة إدارة دولية وشاملة فعلاً لخدمة المصلحة العامة بحيث تكون مسئولة وشفافة في الوقت نفسه. ولتمكين هذه المبادرة فقد تم تشكيل لجنة تنسيق وسكرتارية مشتركة من قبل لجنة توجيه الإنترنت البرازيلية (CGI.br) ومنظمة الأيكان (ICANN) والمنتدى الاقتصادي العالمي ( WEF).

 

* مدرس تقنية معلومات – وزارة التعليم الفني

* عضو لجنة حوكمة الإنترنت بجمعية الإنترنت – اليمن

شاهد أيضاً

WhatsApp Image 2023-12-03 at 16.35.22

COP28 في دبي، تحرك عالمي مشجع لمواجهة تحديات التغير المناخي

  اشراق الصبري يعد مؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ COP28 حدثًا …