هايدلبرغ، المانيا
بقلم عبدالرحمن أبوطالب
في قلب ألمانيا، وتحديداً في مدينة هايدلبيرغ، انعقد المنتدى الحادي عشر للحائزين على جوائز مرموقة في الرياضيات وعلوم الكمبيوتر في الفترة من ٢٢ إلى ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤. جمع المنتدى ٢٥ من العلماء الحائزين على الجوائز المرموقة في مجالي الرياضيات وعلوم الحاسوب، بما في ذلك جائزة آبل، جائزة تورينغ من جمعية الحوسبة، وجائزة ميدالية فيلدز. بالإضافة إلى حوالي ٢٠٠ من الباحثين والباحثات الشباب من مختلف أنحاء العالم، الذين حظوا بفرصة استثنائية للتفاعل مع الفائزين بالجوائز. المنتدى ليس مجرد تجمع أكاديمي تقليدي، بل هو مساحة ديناميكية تهدف إلى تعزيز الإبداع، وتبادل الأفكار، وإلهام جيل جديد من العلماء.
المرأة العربية تكسر الحواجز في مجالات الذكاء الاصطناعي وعلوم الحاسوب والرياضيات
شهدت هذه النسخة من المنتدى زيادة ملحوظة في عدد المشاركات العربية، حيث تضمنت ثمان مقاعد مقارنة بمقعدين فقط في العام الماضي. وقد استأثرت الباحثات العربيات بكامل التمثيل العربي في منتدى هذا العام. هذا التطور يُبرز التقدم الذي أحرزته المرأة العربية في مجالات يهيمن عليها الذكور تقليدياً، مثل الرياضيات وعلوم الكمبيوتر. هذه المجالات تمثل تحدياً إضافياً أمام المرأة العربية، ولكن الحضور المميز هذا العام يعكس الجهود المستمرة والطموح المتقد لتخطي هذه العقبات والوصول إلى منابر علمية مرموقة مثل هذا المنتدى.
فيما يلي نبذة مختصرة عن الباحثات المشاركات في المنتدى ومجالات البحث والاهتمام.
ياسمين عبدربه، باحثة ما بعد الدكتوراه من مصر في جامعة لانكستر، تجمع بين التفاعل الإنساني الحاسوبي والأمن المستخدم في أبحاثها. تستكشف كيفية استخدام تتبع النظر في بيئة الواقع المعزز والافتراضي لتحسين آليات الأمان بطريقة متطورة، مما يساعد المستخدمين على اتخاذ قرارات أمان أفضل.
سوسن الزهر، طالبة دكتوراه لبنانية من جامعة أكسفورد، تسعى في أبحاثها إلى تقليل الانبعاثات الكربونية لشبكات الإنترنت. تدرس التحديات التي تواجه مزودي خدمات الإنترنت ومقدمي المحتوى في تحقيق أهداف “صفر انبعاثات”، وتقترح أساليب مبتكرة لتقليل البصمة الكربونية.
نور حازم حسين، طالبة فلسطينية-أردنية من جامعة محمد بن زايد، تعمل على تعزيز متانة نماذج رؤية اللغة الطبية (Med-VLMs) ضد الهجمات المعادية. باستخدام التعلم بالإشارات، طورت إطارًا جديدًا يسمى “PromptSmooth” لتحصين النماذج ضد الضوضاء، مما يجعلها أكثر فعالية في التطبيقات العملية.
سيرين لواتي، طالبة دكتوراه من تونس، تعمل على تقدير الأمثل للقيمة المشتركة للمتغيرات العشوائية غير المتجانسة، وهو موضوع في غاية الأهمية في علم الرياضيات، خاصة التحليل الإحصائي.
فاطمة الزهراء رزق الله، طالبة من الجزائر في المدرسة الوطنية العليا للإعلام الآلي، تعمل على عدة مشاريع بارزة، منها اكتشاف المجتمعات باستخدام تقنيات تعزيز التعلم، كما تبحث في تخصيصى نماذج اللغات Large Language Model وتطويعها لقطاع الأعمال.
دينا علي حسين، طالبة دكتوراه من مصر تدرس في جامعة ولاية واشنطن، تركز على تكامل الأجهزة القابلة للارتداء مع الرعاية الصحية لتحسين نتائج العلاج. تعمل على تصميم خوارزميات متقدمة لتطبيقات مراقبة الصحة باستخدام بيانات حسية وذكاء اصطناعي، مع معالجة التحديات المرتبطة بالطاقة المحدودة للأجهزة.
رغدة عز الدين، طالبة من مصر تدرس في جامعة شرق البحر الأبيض المتوسط، تبحث في الأدوات الرياضية المستخدمة في نماذج التعلم الآلي. عملها يركز على تحسين دقة وموثوقية النتائج التي تقدمها الشبكات العصبية العميقة، حيث تستكشف كيفية تعزيز هذه الهياكل باستخدام أدوات رياضية من نماذج أخرى في مجال التعلم الآلي.
رؤى العمارين، طالبة أردنية من جامعة الأردن، تعمل مع فريقها على تطوير نماذج جديدة لتحديد الأورام السرطانية في الدماغ باستخدام الشبكات العصبية التلافيفية (CNNs). أبحاثهم تساهم في تطوير نظام تشخيص بمساعدة الحاسوب (CAD) وتقديم بيانات جديدة واختبار نماذجهم في بيئات عملية.
بهذه الإبداعات، يتضح أن المنتدى الحادي عشر لحائزي جائزة هايدلبرغ لم يكن مجرد حدث علمي، بل كان منصة لنشر الإلهام وتعزيز التعاون العلمي بين نخبة العقول الشابة من العالم العربي والعالم.
آلية قبول المشاركين في المنتدى: الجودة أولاً
تمثل هذه الباحثات نماذج مشرفة للشباب العربي في مجالات العلم والبحث. مشاركتهن في هذا المنتدى تعد إضافة قيمة لرصيد المنطقة في البحث العلمي وتؤكد أن النساء العربيات لديهن القدرة على التفوق والإبداع في ميادين تتطلب الكثير من الذكاء والشغف.
تحدثت إنجريد روسيل، إحدى عضوات اللجنة العلمية المسؤولة عن قبول طلبات باحثي علوم الكمبيوتر، مشيرة إلى أن عملية اختيار المشاركين تعتمد بالأساس على جودة الطلبات المقدمة ونوعية الأبحاث. بينما أكد السيد تيموثي بينكستون، عضو آخر في اللجنة المسؤولة عن تقييم طلبات الباحثين في مجال الرياضيات، أن كل طلب يتم تقييمه بشكل مستقل من قبل كل عضو، ثم تُجمع التقييمات للحصول على النتيجة النهائية. وأضاف: “هناك توجه عام لتحقيق توازن بين الجنسين والتخصصات والمستويات العلمية، لكن هذا لا يتضمن تمييزاً جغرافياً بين الدول أو المناطق.”
المرأة العربية: منافسة رغم التحديات
أعربت الباحثة فاطمة رزق الله عن سعادتها بمشاركة المرأة العربية في المنتدى، قائلة: “تحدثت مع زميلاتي هنا ونحن فخورات بأنفسنا، فقد كان من الصعب علينا منافسة الذكور في هذه المجالات.” بينما أكدت نور حسين من الأردن: “في جامعتنا، غالبية الطلاب الذكور هم الذين يتخصصون في الرياضيات وعلوم الحاسوب، ولهذا تفاجأ الكثير من زملائي عندما علموا بمشاركتي في المنتدى.”
أما الدكتورة ياسمين عبد ربه من مصر، فأشارت إلى التحديات التي تواجه المرأة العربية في هذه التخصصات والمشاركة في فعاليات علمية دولية كهذه. وأضافت: “لاحظت أن معظم الفتيات العربيات المشاركات يقمن أو يدرسن خارج المنطقة العربية، وربما هذا ما سهل عليهن المشاركة.”
في المقابل، كانت سوسن الزهر من لبنان تفضل مشاركة أوسع للشباب العرب لكنها عللت قائلة: “أعتقد أن السبب يعود إلى أن معظم الشباب العرب في هذه التخصصات يتجهون للعمل مبكراً في القطاع الصناعي، بينما تفضل النساء مواصلة التحصيل الأكاديمي.”
وجهات نظر العلماء
علق العالم الأمريكي الحائز على جائزة تورينغ، ويتفيلد ديفي، قائلاً: “لا أجد الأمر مفاجئاً. النساء أظهرن التزاماً ونجاحاً ملحوظاً في المجالات العلمية، لاسيما الرياضيات.” وأضاف مشيراً إلى مشاركة عالمة الرياضيات الأمريكية يائيل كالاي، المرأة الوحيدة بين الحائزين على الجوائز في هذا المنتدى.
جسر من الإلهام بين جيلين من العلماء
ما يميز منتدى هايدلبيرغ هو الفرصة التي يوفرها للباحثين الشباب للتفاعل مع العلماء المخضرمين والحائزين على جوائز علمية مرموقة. هذا التفاعل، سواء من خلال المحاضرات أو النقاشات غير الرسمية، غالباً ما يؤدي إلى تعاونات جديدة وأفكار بحثية رائدة. المنتدى يُمهد الطريق لاكتشافات علمية مستقبلية من خلال حوار مفتوح ومثمر بين أجيال العلماء المختلفة.
في هذا الصدد، يقول ويتفيلد ديفي الحائز على الجائزة “الهدف الأساسي للمنتدى هو ربط العلماء الأكبر سنًا بالجيل الجديد من الباحثين وأرى أن هذا الأمر ينجح بشكل كبير. نحضى جميعنا هنا بفرصة ثمينة للالتقاء لتبادل الأفكار والاستمتاع بوقتنا.” من جانبها، تقول سيرين لواتي من تونس: “طالما كنت أقرأ أعمال العالم المجري لولي فالفانت في الرياضيات، ولقاؤه هنا كان حلماً تحقق.” من جهتها، أبدت فاطمة رزق الله إعجابها بالعالم الروسي-الأمريكي أليكس إيفروس وبحوثه في الذكاء الاصطناعي، مشيرة إلى أنها تمكنت من التحدث معه خلال العشاء في المنتدى. أما دينا حسين من مصر، فأعربت عن إلهامها من حديث العالم الهندي-الأمريكي راج ريدي حول دور الساعات الذكية في اكتشاف فيروس كورونا، وهو موضوع قريب من بحثها الخاص. فيما أبدت سوسن الزهر اهتمامها بالنقاش مع العالم فينتون سيرف الذي خططت للقائه منذ اللحظة الأولى لحضور المنتدى. في حين أشادت ياسمين عبد ربه بهيكلية المنتدى التي سهلت التواصل مع العلماء الفائزين بالجوائز دون أي عوائق تنظيمية أو رسمية، قائلة “يمكنك ببساطة الحديث مع العلماء في الأروقة أو على طاولة العشاء أو حتى في الاستراحة بين الفعاليات. كل العلماء الذين قابلتهم في المنتدى متواضعون، ودودون و متعاونون للغاية.”
فرص التعاون العلمي
يساهم المنتدى بشكل كبير في تعزيز التعاون العلمي بين الباحثين من مختلف الثقافات، ويتيح فرصة فريدة للباحثين العرب للتفاعل مع العلماء المخضرمين والشباب من جميع أنحاء العالم. يُمكّن هذا التبادل الثقافي والعلمي الباحثين العرب من توسيع آفاقهم والاستفادة من تجارب الرواد العالميين، كما يسهم في بناء شراكات بحثية قد تؤدي إلى تعاونات دولية تعزز من جودة الأبحاث العلمية.
تقول دينا حسين: “المنتدى أتاح لي فرصة التعرف على الأبحاث والمنهجيات الحديثة في مجالات خارج تخصصي.” من جانبها قالت نور حسين: “في منطقتنا، نفتقر إلى فعاليات علمية كهذه. المنتدى يمثل فرصة نادرة لاكتشاف الفرص وإيجاد شراكات بحثية جديدة.”
لا شك أن تمثيل الباحثين العرب، وخاصة النساء، في مثل هذه المنتديات العلمية العالمية يعزز التنوع الثقافي والفكري، وهو أمر لا غنى عنه لتطور العلوم. التنوع يثري المناقشات العلمية ويجلب وجهات نظر جديدة ومبتكرة، مما يسهم في حل التحديات العالمية المشتركة، سواء في مجالات الرياضيات، علوم الكمبيوتر، أو التكنولوجيا بشكل عام.