خاص – يمن ساينس
تحقيق – عبد الرحمن أبو طالب
في إحدى أمسيات مايو/أيار 2020، لم تتوقف صفوف السيارات أمام مقبرة صغيرة في عدن. عشرات الجنازات كانت تصل تباعاً. رجال بكمامات متواضعة يحفرون القبور على عجل، بينما أسرٌ مذهولة تودّع أحبّتها من بعيد خوفاً من العدوى. كان ذلك المشهد المؤلم أحد المؤشرات الأولى على أن وباء كوفيد-19 يضرب اليمن بقوة، في وقت لم تكن الأرقام الرسمية تقول شيئاً يُذكر.
اليمن، الذي دخل عامه السادس من الحرب آنذاك، وجد نفسه أمام جائحة عالمية بنظام صحي شبه منهار. نصف المرافق الطبية خارج الخدمة، والأطباء يعملون بلا أجور كافية أو بمعدات وقاية محدودة، والأكسجين سلعة نادرة. وهكذا تحولت الجائحة إلى “طبقة إضافية من المأساة”، كما وصفتها تقارير الأمم المتحدة.
أرقام قليلة وواقع أكبر
في 10 أبريل/نيسان 2020، أعلنت السلطات في حضرموت تسجيل أول إصابة مؤكدة بفيروس كورونا. بعد ذلك بدأت لجنة الطوارئ التابعة للحكومة المعترف بها دولياً تصدر بيانات يومية عبر تويتر. لكن عدد الفحوصات ظل محدوداً للغاية. تقارير البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية أشارت إلى أن إجمالي الاختبارات لم يتجاوز 26 ألف اختبار حتى منتصف 2021، وهو رقم هزيل لبلد يتجاوز سكانه 30 مليون نسمة.
ضعف الاختبارات أخفى الحجم الحقيقي للكارثة. لكن صور الأقمار الصناعية للمقابر في عدن، التي حللها باحثون بريطانيون، أظهرت زيادة مقلقة في معدلات الدفن خلال الموجة الأولى. فقد قُدّر عدد الوفيات الزائدة في المدينة بحوالي 2100 حالة بين أبريل وسبتمبر 2020، وهو ما يعادل أضعاف الأرقام الرسمية.
شهادات منظمة “أطباء بلا حدود” من مركز علاج كوفيد-19 في عدن دعمت هذه التقديرات. الأطباء تحدثوا عن “كارثة تتكشف” مع وصول المرضى في حالة حرجة ونقص فادح في الأكسجين وأجهزة التنفس.
سلطتان… وسياستان متناقضتان
في بلد منقسم بين سلطتين، انعكست الانقسامات على مواجهة الجائحة.
• في الجنوب ومناطق الحكومة المعترف بها دوليا: أُنشئت لجنة طوارئ عليا، وأُعلن عن حظر جزئي وإجراءات إغلاق في بعض المحافظات مثل حضرموت وتعز. لكن شح الإمكانيات جعل الاستجابة ضعيفة، إذ لم يكن هناك سوى عدد محدود من وحدات العناية المركزة والمختبرات.
• في الشمال الخاضع لسيطرة حكومة صنعاء (الحوثيين): اتُّهمت السلطات هناك بالتكتم على الأرقام ومنع نشر بيانات دقيقة عن حجم التفشي. في الوقت الذي كان المستشفيات تستقبل حالات متزايدة، كانت البيانات الرسمية شبه متوقفة. مسؤولون في صنعاء قللوا علناً من خطورة الفيروس، ما أعاق الجهود الإنسانية وأربك المواطنين. فقد صرح طه المتوكل وزير الصحة في 8 يونيو 2020، أن نسبة الوفيات في اليمن بسبب فيروس كورونا قليلة جدا نتيجة اعتماد سياسة طمأنة المريض وطمأنة المجتمع – حد قوله – مؤكدا “عدم كفاءة” محاليل طبية مقدمة من “الصحة العالمية” لفحوص كورونا في بلاده ومتهما وكالات الأمم المتحده بالتهويل.
هذا التناقض جعل اليمنيين أمام صورتين متناقضتين: واحدة رسمية تتحدث عن أعداد محدودة، وأخرى ميدانية مليئة بالوفيات والمقابر المزدحمة.
اللقاحات… حلم مؤجل
لم يعرف اليمن اللقاحات إلا في مارس/آذار 2021، حين وصلت أول شحنة من لقاح أسترازينيكا عبر مبادرة “كوفاكس”. كان نصيب اليمن 360 ألف جرعة وصلت إلى عدن، وبدأت حملة التطعيم في أبريل. الأولوية أعطيت للعاملين الصحيين وكبار السن والمسافرين.
لكن إدخال اللقاح إلى مناطق سيطرة أنصار الله كان شبه مستحيل. تقارير منظمات حقوقية قالت إن سلطات صنعاء قوّضت الحملة، بل ونشرت معلومات مضللة عن خطورة اللقاح. في الجنوب، ورغم البداية البطيئة، ارتفع الإقبال لاحقاً مع اشتراط بعض الدول المجاورة إبراز شهادة التطعيم للسفر.
حتى اليوم، بقيت معدلات التطعيم في اليمن بين الأدنى عالمياً، وهو ما يعكس ليس فقط ضعف الإمداد، بل أيضاً غياب الثقة وسياسة الإنكار.
شائعات ومعلومات مضللة
في بلد منهك من الحرب والفقر، أصبحت الشائعات غذاءً يومياً. على فيسبوك وواتساب انتشرت أخبار تتحدث عن “مؤامرة” وراء الفيروس، أو أن “اللقاح يسبب العقم”، أو أن “شرب الأعشاب يكفي للوقاية”.
منظمة “إنترنيوز” رصدت مئات الإشاعات المتداولة خلال عامي 2020 و2021. كثير من الناس لم تصلهم الرسائل الرسمية للجنة الطوارئ أصلاً، فيما لم تحظَ حملات التوعية بانتشار كافٍ. النتيجة كانت تردداً واسعاً في تلقي اللقاح، خاصة في المناطق الريفية التي تعتمد على الموروث الشعبي أكثر من الإعلام.
المستشفيات: جبهات بلا سلاح
في مستشفى الجمهوري بعدن، كان الأطباء يواجهون تدفق المرضى بلا معدات وقاية كافية. “نحن نقاتل بصدور عارية”، قال أحد الأطباء ليمن ساينس حينها. كثير من المرافق أغلقت أبوابها أمام حالات الاشتباه خوفاً من العدوى.
“أطباء بلا حدود” نقلت صورة قاتمة من مركزها في عدن: نقص الأكسجين، محدودية أجهزة التنفس، وفيات بين شباب وكبار على حد سواء. ومع انهيار الاقتصاد، لم يكن بمقدور كثير من العائلات شراء أسطوانة أكسجين من السوق السوداء.
بين التصريحات والواقع
المسؤولون الحكوميون في الجنوب حذروا من موجات جديدة وأكدوا الحاجة إلى الدعم الدولي. في المقابل، كان مسؤولون في الشمال ينكرون حجم الخطر، ويعتبرونه “مبالغة غربية”. هذه التناقضات رسّخت أزمة ثقة بين الناس والسلطات، فانتقلوا إلى مصادر بديلة: مواقع التواصل، إشاعات السوق، وتجارب الجيران.
أصوات الناس: بين الخوف والإنكار
في تعز، قال أحمد، وهو عامل يومي: “سمعنا عن كورونا لكن لم نرَ شيئاً في البداية. عندما بدأ الناس يموتون فجأة، عرفنا أن الأمر حقيقي، لكن لم يكن لدينا خيار سوى الخروج للعمل”.
أم محمد، ربة منزل في صنعاء، أكدت أنها رفضت اللقاح خوفاً من “الإشاعات عن العقم”. بينما قال طبيب من عدن: “خسرنا زملاء أعزاء بسبب الفيروس. لم يكن لدينا معدات كافية، وبعضنا أصيب أثناء العمل”.
ماذا بعد؟
بعد أكثر من عامين على دخول الفيروس البلاد، يبقى الدرس الأبرز أن الأوبئة لا تميّز بين طرف وآخر، لكن السياسة تفعل. تسييس الصحة العامة، ضعف البنية التحتية، وغياب الثقة بين الناس والسلطات جعلت من جائحة كورونا مأساة مضاعفة في اليمن.
اليوم، ومع انحسار الجائحة عالمياً، يظل اليمن معرضاً لأي وباء قادم، في ظل نظام صحي متداعٍ، ومجتمع أنهكته الحرب، وبيئة إعلامية مشوّشة. ربما تكون كورونا جرس إنذار لمستقبل قد يأتي بأوبئة أخرى، لكن يبقى السؤال: هل سيتعلم اليمنيون وسلطاتهم من التجربة، أم سيظل الوباء القادم “طبقة إضافية” فوق مأساة لا تنتهي؟