بقلم : الدكتورة جميلة الوطني
مع تبدد سحب “الانبهار” التي غشت سماء الذكاءالاصطناعي، يشرق فجر “المساءلة” الصارم..ومعه،يلوح السؤال الذي يزن المستقبل بأكمله..هل قدرنا أننظل حبيسي ظل استيراد الشرائع الغربية وتكييفهاأم أن الأوان قد آن لجرأة تشريعية تطلق قوانين تنبعمن فيض حضارتنا وصدق قيمنا، لتغدو إشعاعًايصدر للعالم معيارًا عربيًا رائدًا في ضبط زمامالآلة؟
لم تكن مملكة البحرين قط من السائرين في الركبالمتأخر، فقد استبقت الريح بسياستها الوطنية للذكاءالاصطناعي وتبنيها المبكر للميثاق الخليجيلأخلاقيات التقنية ..بيد أن صرح المستقبل يستدعيالآن ارتقاءً فوقيًا إلى مستوى المنظومة القانونيةالخلاقة؛ منظومة لا تكتفي بمسايرة العصر، بل تبحربه نحو رسوخ السيادة في موانئ الهوية.

إن الركون إلى استيراد الأطر التشريعية وإن كانضرورة لتحقيق التناغم الدولي يظل قاصرًا عنإدراك السيادة التشريعية الكاملة..فالنصوص تصاغفي أودية ثقافية بعيدة وقد تتعارض جوهريًا معمرتكزاتنا الحضارية الثلاثة:
تتعارض مع مرتكزنا القيمي والأخلاقي إذ إنالحاجة تصرخ لتأصيل مبادئ الشريعة الغراء—منالعدل السابغ والمسؤولية الضامنة إلى قاعدة درءالمفاسد وتحقيق المصالح—لتكون عصبًا أخلاقيًا لاتزيغ عنه الخوارزميات ويغدو حكم الآلة خاضعًالميزان القيمة والإنسان.
تتعارض مع مرتكزنا الجغرافي والسيادي إذ لا بدوأن تنبع قوانين تشيد السيادة الإقليمية على ثروةالبيانات وتجعل من البحرين قبلة للاستثمارات فيالذكاء الاصطناعي الموثوق بعيدًا عن وهج السيطرةلمراكز البيانات العابرة للقارات.
تتعارض مع مرتكزنا الأهم والمتصل بالهوية والنسيجالمجتمعي ومصدر أهميته أنه يقع على كاهلالتشريع حماية سياج الهوية الوطنية من كل ما قديفتك به الذكاء الاصطناعي في صميم التعليموالإعلام وذلك بتجفيف منابع الانحيازات المبرمجةالتي تهدد وحدة النسيج الاجتماعي.
وانطلاقًا مما سبق ..للتحليق بمسيرة البحرين منمجرد متّبع إلى قائد في فضاء حوكمة الذكاءالاصطناعي، يجب أن تتركز الجهود على صياغةتشريعات رائدة تتمتع بخصائص فريدة وقدرة علىحل معضلات إقليمية وعالمية ..وفي هذا المسعى،يبرز أولًا “ميثاق المساءلة الأخلاقية ..إجلالًا للفقه؛الذي يبتعد عن العموميات الفضفاضة ليفرضالامتثال الفقهي الإجرائي على الأنظمة التي تلامسقضايا المصير الكبرى كالتمويل الإسلامي والعدالة..إنّ عبقريته تكمن في تقديم معيار كونيّ يزاوجببراعة بين أوج التطور التقني وأصالة العمقالقيمي، فيغدو بذلك قبلة التشريع لكل الأمم التيتتناغم مع مرجعيتنا الروحية.
ويأتي ثانيًا “تشريع صناديق ائتمان البياناتالإقليمية“، الذي يمثل حلًا جذريًا لمعضلة ندرةالبيانات على المستوى الإقليمي ..هذا التشريعيقضي بإنشاء كيانات قانونية للإدارة الجماعيةوحماية بيانات المواطنين عبر دول مجلس التعاون،بما ييسر تبادل البيانات بشكل آمن لتدريب نماذجذكاء اصطناعي إقليمية محكمة ..وتكمن عظمته فيالحفاظ على السيادة المطلقة ووضع ثروة البياناتتحت مظلة تحالف إقليمي حصين.
أما ثالثًا، فتأتي “أطر التدقيق الإلزامي للخوارزمياتالحكومية“: للتحول بالشفافية من دائرة الوعود إلىحيز الإلزام الحتمي، يجب سن قانون يفرض تدقيقًاسنويًا شاملًا ومستقلًا على أي نظام ذكاءاصطناعي توظفه الجهات الحكومية ..يجب أنيتجاوز هذا التدقيق فحص الكفاءة ليطال كشفالتحيز الخوارزمي، مرسخًا “الشفافية” كإجراءقانوني لا مفر منه، ومؤسسًا لمهنة حيوية وجديدة هي“مدققو الخوارزميات المعتمدون“.
فضلًا عن تشريع يربط تشغيل الذكاء الاصطناعيبمحددات الاستدامة البيئية والمتمثلة في الطاقةوالبصمة الكربونية انسجامًا مع أهداف الحيادالصفري، وضمان حماية الكفاءات الوطنية منالاستبدال بالآلة، لتكون البحرين أيضًا نموذجًا عالميًافي التوفيق بين التحول الرقمي ومتطلبات التنميةالمستدامة.
إن صياغة هذه التشريعات المبتكرة تتطلب الخروجعن القوالب التقليدية وتبني نهج مرن ومشترك،يضمن مواكبة السرعة الجنونية للتطور التقني..ويقوم هذا النهج على ثلاثة محاور رئيسة: أولًا،منهجية التعاون الثلاثي الموسع: يجب توسيع دائرةالمشاركة لتتجاوز الأضلاع المعهودة، لتشمل علماءالفقه والقانون الدستوري لضمان رسوخ التشريعقيميًا، إلى جانب المجتمع المدني لتمثيل متطلباتوحقوق المستخدم النهائي. ثانيًا، البيئات التنظيميةالتجريبية ..يتم خلق بيئات اختبار آمنة تسمحللشركات بتجربة ابتكارات الذكاء الاصطناعي تحتلوائح مؤقتة ومرنة ..هذا يوفر للمشرّع بيانات عمليةودقيقة حول تأثير التقنية، قبل أن يقيّدها بنصوصجامدة قد تعيق التطور. ثالثًا، إضفاء الطابع التقنيعلى النص القانوني: يجب أن تتسم النصوصالتشريعية بالحوكمة الرشيقة، وأن تسمح باستخدامالمعايير التقنية (كأدوات الكشف عن التحيز) كجزء لايتجزأ من متطلبات الامتثال، بما يضمن مواكبةسرعة التطور بدلًا من الاكتفاء بالصياغة اللغويةالمجردة.
إن التحدي اليوم ليس في الركض خلف الذكاءالاصطناعي، بل في استدراجه إلى ميدان المساءلةوتطويعه ..فالمعركة الكبرى لم تعد صراعًا بين الخيالوالواقع، بل هي صراع بين ضمير يقظ يزن، وتشريعمبرم يحد، في وجه سيل الآلة الجارف الذي لا يعرفالإشفاق. فالتاريخ لا يرفع إلا رايات من يجرؤون علىغرس النقطة الأولى في بيداء الغد ..إن احتضانالبحرين لهذه الجرأة التشريعية سيصونها من أنتكون مجرد رحم مستهلك للتقنية، بل سيجعلها منبعًاتشريعيًا يشع نورًا، فتسطّر حكايتنا بأيدينا ولا نغدومجرّد همسة في سردية يخطّها الآخرون.