فيما يرتدي معظم الأشخاص نظارات الواقع الافتراضي (VR) لخوض تجربة ترفيهية داخل عالم ألعاب الفيديو، يستغلها العلماء في مهمة مختلفة تمامًا: المساعدة في تشخيص مرض الزهايمر قبل ظهور أعراضه السريرية.
يُعتبر الكشف المبكر عن الزهايمر خطوة حاسمة في تحسين حياة المرضى، حيث يمكن أن تؤدي التدخلات المبكرة إلى إبطاء تقدم المرض باستخدام الأدوية والتعديلات في نمط الحياة. لكن التحدي يكمن في أن التشخيص التقليدي يعتمد على جمع مؤشرات بيولوجية مكلفة وغالبًا ما تكون غازية، مما يجعلها متاحة فقط لمن تظهر عليهم بالفعل علامات التدهور الإدراكي.
هنا يأتي دور الواقع الافتراضي، حيث يعمل علماء الأعصاب على تطوير طرق تقييم معرفية غير غازية يمكن أن تساعد الأطباء في التشخيص المبكر. في مؤتمر جمعية علوم الأعصاب الإدراكية (CNS) السنوي في بوسطن، يعرض الباحثون أحدث التطورات في استخدام الواقع الافتراضي لدراسة تراجع القدرات الإدراكية، مستندين إلى أبحاث سابقة حول دور الذاكرة المكانية في مرض الزهايمر.
الذاكرة المكانية والملاحة في بيئة الواقع الافتراضي
يعتبر التدهور في الذاكرة المكانية من المؤشرات المبكرة للزهايمر. وفقًا للمعهد الوطني للشيخوخة، يصيب المرض نحو 1 من كل 13 شخصًا بين سن 65 و84 عامًا، ومن المتوقع أن يزداد هذا العدد مع ارتفاع متوسط العمر المتوقع.
عالمة الأعصاب المعرفية تمّي تران من جامعة ستانفورد، التي تترأس ندوة حول الواقع الافتراضي والذاكرة في مؤتمر CNS، تقول:
“الذاكرة العرضية رائعة لأنها تشكل هويتنا وتعكس تجاربنا، لكن ماذا يحدث عندما تبدأ تلك الذكريات في التلاشي؟”
في دراستها الجديدة، التي قادها الباحث هادي حسيني، استخدم فريقها اختبارات ذاكرة مكانية داخل بيئة واقع افتراضي تفاعلية. طلبوا من المشاركين، بما في ذلك كبار السن غير المصابين باضطرابات إدراكية وأشخاص يعانون من ضعف إدراكي طفيف، تحديد مواقع أشياء مألوفة مثل جهاز التحكم عن بُعد أو النظارات داخل غرفة معيشة افتراضية، ثم إعادة إنشاء ترتيبها لاحقًا.
أظهرت النتائج أن كبار السن، وحتى أولئك الذين لم يُشخصوا بالزهايمر بعد، واجهوا صعوبة أكبر في تذكر مواقع الأجسام مقارنة بالشباب. الأهم من ذلك، وجد الباحثون أن مستويات بعض البروتينات المرتبطة بالزهايمر، مثل pTau217، كانت مرتبطة بدقة تذكر المواقع، مما يشير إلى تأثير مبكر للبروتينات المرتبطة بالمرض على الذاكرة.
الواقع الافتراضي.. نافذة جديدة على الدماغ
الدراسة تتماشى مع اتجاه جديد في الأبحاث يشير إلى أن البروتينات المسببة للزهايمر يمكن أن تؤثر على الوظائف المعرفية قبل ظهور الأعراض الإكلينيكية بفترة طويلة. وهذا يمثل تقدمًا كبيرًا مقارنة بالماضي، حيث كان التشخيص يعتمد على تحليلات ما بعد الوفاة، قبل أن يتم تطوير تقنيات التصوير الحيوي ثم اختبارات الدم الحديثة.
الدكتور مانو مادهاف، عالم الأعصاب بجامعة كولومبيا البريطانية، يوضح أن تحسين تصميم البيئات الافتراضية لتناسب كبار السن كان أحد أكبر التحديات، لكنه وفريقه تمكنوا من تطوير بيئات VR مريحة وسهلة الاستخدام، بحيث يمكن للمشاركين التجول فيها بسهولة دون الشعور بالغثيان أو الدوار.
في إحدى التجارب، طُلب من المشاركين التنقل في متاهة افتراضية مع تذكر مواقع المعالم الرئيسية. أظهرت النتائج اختلافات واضحة بين الشباب وكبار السن، ما يفتح الباب أمام تطبيق الاختبار مستقبلاً على مرضى الزهايمر في مراحله المبكرة.
يؤكد مادهاف أن هذا البحث لا يقتصر فقط على مرض الزهايمر، بل يمكن توظيف الواقع الافتراضي في دراسة العديد من الاضطرابات المعرفية الأخرى. ويضيف:
“بفضل التطور السريع في تقنية VR، أصبح من الممكن للمختبرات المتخصصة في علم الأعصاب المعرفي استخدام هذه التقنية للإجابة على أسئلة معقدة تتطلب بيئات غامرة وتفاعلية.”
مع استمرار البحث في هذا المجال، يبدو أن تقنيات الواقع الافتراضي لن تبقى مجرد أدوات ترفيهية، بل قد تصبح في المستقبل القريب أداة تشخيصية قوية للكشف المبكر عن الأمراض العصبية مثل الزهايمر، مما يمنح الأطباء والمرضى فرصة أكبر للتعامل مع المرض في مراحله الأولى قبل أن يترك تأثيرًا لا رجعة فيه على الذاكرة والهوية.