في دراسة رائدة أجراها فريق دولي بقيادة جامعة ميشيغان، استُعين بأكثر من عقدين من البيانات التي جُمعت بواسطة مرصد “شاندرا” للأشعة السينية التابع لوكالة ناسا، للكشف عن أسرار جديدة حول الثقوب السوداء العملاقة، حيث ركّزت الدراسة على الجسيمات عالية الطاقة التي تنبعث في شكل “نفاثة” من الثقب الأسود العملاق في مركز المجرة “قنطورس أ”.
تُعدّ هذه النفاثات الضخمة إحدى أكبر الهياكل الكونية المعروفة، إذ تفوق حجم المجرة الأم أحيانًا، وما زالت تمثل لغزًا أمام العلماء. تتميز النفاثات بقدرتها على الإشعاع عبر أطوال موجية متعددة، بما في ذلك الموجات الراديوية والأشعة السينية، وهو ما جعل المراقبة متعددة الأطوال الموجية أداة مهمة لاكتشاف الفوارق في تفاصيل النفاثة عبر نطاقات مختلفة.
منذ إطلاق مرصد “شاندرا” في عام 1999، أثار الإشعاع الساطع غير المتوقع للأشعة السينية من هذه النفاثات اهتمام العلماء. وقد كان الاعتقاد السائد أن الأشعة السينية والموجات الراديوية تُظهِر نفس السمات البارزة للنفاثة، وهو ما لم يكن واعدًا بما يكفي لفك الألغاز الكونية المرتبطة بهذه الظاهرة. بيد أن الدراسة الجديدة قدّمت منظورًا مختلفًا، إذ تمكّن الفريق من التعمق في تفاصيل البيانات لإظهار اختلافات دقيقة وذات معنى بين ملاحظات النفاثة بالأشعة السينية وتلك التي تم تسجيلها عبر موجات الراديو.
وفي هذا الصدد، قال ديفيد بوجينسبرجر، الباحث الرئيسي في الدراسة وزميل ما بعد الدكتوراه في جامعة ميشيغان: “مفتاح فهم ما يحدث داخل النفاثة يكمن في كيفية تتبع الأطوال الموجية المختلفة لأجزاء متنوعة من البيئة”. وأضاف: “النفاثة في الأشعة السينية ترسم صورة فريدة لا تظهر في أي طول موجي آخر”.
وفي دراستهم، التي نُشرت في “مجلة الفيزياء الفلكية”، قام الفريق بتحليل بيانات مرصد شاندرا لمجرة قنطورس أ خلال الفترة من عام 2000 حتى 2022. ولإنجاز هذا العمل، طوّر بوجينسبرجر خوارزمية حاسوبية لتتبع ميزات ساطعة ومتكتلة داخل النفاثة، تُعرف باسم “العُقَد”، التي تتحرك خلال فترة المراقبة. وقد تمكّن الفريق من قياس سرعة العقد التي تم رصدها، وكانت سرعة إحداها لافتةً للغاية حيث بدت وكأنها تتحرك بسرعة تتجاوز سرعة الضوء بسبب موقعها النسبي بالنسبة لمرصد شاندرا.
ومع ذلك، أوضحت التحليلات أن السرعة الفعلية لتلك العقدة بلغت نحو 94% من سرعة الضوء، وهي سرعة تفوق كثيرًا ما سُجل من خلال الموجات الراديوية لنفس الموقع، حيث أظهرت القياسات السابقة أن العقدة كانت تتحرك بسرعة تبلغ نحو 80% من سرعة الضوء.
وأضاف بوجينسبرجر قائلاً: “يعني ذلك أن العقد في النفاثات تتحرك بسرعات مختلفة اعتمادًا على الطول الموجي المُستخدم للمراقبة”.
كما لاحظ الفريق فرقًا إضافيًا مثيرًا، إذ أظهرت بيانات الموجات الراديوية أن العقد القريبة من الثقب الأسود هي الأسرع حركة، بينما أظهرت الدراسة الجديدة أن العقدة الأسرع كانت في منطقة وسطى، ليست الأقرب للثقب الأسود، وليست الأبعد عنه.
واختتم بوجينسبرجر حديثه بالتأكيد على أهمية هذه الاكتشافات ودورها في فتح آفاق جديدة لدراسة النفاثات الكونية عبر الأطوال الموجية المختلفة، قائلاً: “أظهرنا نهجًا جديدًا لدراسة النفاثات، وأعتقد أن هناك الكثير من الأعمال المثيرة للاهتمام التي يمكن إجراؤها”. وأضاف أن الفريق يعتزم تطبيق هذا النهج على نفاثات أخرى في المستقبل، مع التركيز على النفاثات القريبة من الأرض والتي تسهل مراقبة ميزاتها الدقيقة.