الرئيسية / الصحة و السكان / كشف المسار الغامض لوباء الكوليرا في اليمن
الكوليرا في اليمن
الكوليرا في اليمن

كشف المسار الغامض لوباء الكوليرا في اليمن

دراسة تكشف عن أصول الوباء المتفشي في اليمن وترسم خريطة لانتقالها وتحدد نوعية المضادات الحيوية المناسبة لدرئها

بقلم محمد منصور  

يعيش اليمن واحدةً من أكبر الأزمات الإنسانية في العصر الحديث؛ إذ يتكالب عليه ثالوث مرعب، أضلاعه الفقر والمرض والدمار، وهو أمر أجبر منظمات الإغاثة العالمية ومؤسسات الصحة الأممية على تقديم مُساعدات عاجلة للقاطنين في تلك البؤرة التي تشهد صراعًا عنيفًا قوامه السلطة والنفوذ، وفق موقع اللجنة الدولية للصليب الأحمر على الإنترنت.

ومؤخرًا، تعاونت مجموعة دولية من الباحثين في محاولة لإلقاء مزيد من الضوء على مشكلة كبيرة تواجهها تلك الدولة التي تقع جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، بعد أن قاموا بالكشف عن مصدر أكبر حوادث انتشار وباء الكوليرا في العصر الحديث، وهو الأمر الذي يُتوقع له أن يُسهِم في السيطرة على موجات تفشِّي المرض في المستقبل.

في الدراسة المنشورة في دورية “نيتشر” (Nature)، قام الباحثون بتحليل وتتبُّع وباء الكوليرا باليمن، وتوصلوا إلى نتائج مكنتهم من دراسة التطور السلالي لها، ونشوء المرض، ورسم خريطة لمسارات انتقالها وتتبُّع تطورها وتحديد نوعية المُضادات الحيوية التي يُمكن استخدامها لمواجهة هذا الوباء، وذلك عبر فحص الخريطة الجينية ووضع التسلسل الجينومي لعينات من بكتيريا “ضمة الكوليرا” Vibrio cholera المعزولة من مناطق موبوءة في اليمن.

قالت النتائج إن كل العينات التي جُمعت من اليمن خلال الفترة الزمنية لتفشِّي الوباء تنتمي إلى سلالة واحدة من الكوليرا تُسمى T13.

وأظهر تحليل الخريطة الجينية لذلك النوع اختلافًا كبيرًا عن سلالة الكوليرا التي انتشرت في الشرق الأوسط إبان الحرب على العراق، فيما تطابقت تلك السلالة مع سلالة انتشرت مؤخرًا في شرق أفريقيا في كلٍّ من كينيا وتنزانيا وأوغندا بين عامي 2015 و2016.

وأفضى تحليل هذه البيانات إلى أن “كوليرا اليمن” -التي تحتوي على جين ctxB7- بدأت في الأساس في جنوب آسيا، وتحديدًا في الهند من عام 2006، ثم انتقلت في ثلاث موجات مختلفة على الأقل لغرب أفريقيا في 2008، وهايتي في 2010، وشرق أفريقيا في 2013 و2014.

الكوليرا في اليمن تستجيب سلالة الكوليرا اليمنية للعلاج بالبوليمكسين بسبب وجود طفرة في حمضها النووي نجم عنها تغير في تسلل الأحماض الأمينية Credit:Naturevolume 565 (2019)
الكوليرا في اليمن
تستجيب سلالة الكوليرا اليمنية للعلاج بالبوليمكسين بسبب وجود طفرة في حمضها النووي نجم عنها تغير في تسلل الأحماض الأمينية Credit:Naturevolume 565 (2019)

تستجيب سلالة الكوليرا اليمنية للعلاج بالبوليمكسين بسبب وجود طفرة في حمضها النووي نجم عنها تغير في تسلل الأحماض الأمينية Credit:Naturevolume 565 (2019)

ووفق تقديرات منظمة الصحة العالمية، تُعد الكوليرا أحد أنواع العدوى المعوية الحادة التي تُسببها بكتيريا تُعرف باسم “الضمة الكوليرية”، وتنتقل تلك البكتيريا عبر الطعام أو الماء الملوث، ويُمكن أن تؤدي الإصابة بها إلى الجفاف الحاد المُسبب للوفاة حال عدم تلقِّي العلاج اللازم.

وفي العادة، يُمكن علاج الكوليرا باستخدام تدابير بسيطة، منها تناوُل أدوية الجفاف، وإعطاء المضادات الحيوية المناسبة لسلالة المرض، ورغم سهولة العلاج، إلا أن الحصول عليه في مناطق الصراع –كاليمن- يظل عصيًّا، وهو ما يؤدي إلى زيادة نسب الوفاة الناجمة عن الإصابة بذلك المرض.

وارتفعت معدلات الإصابة بوباء الكوليرا بين المدنيين في اليمن لتزيد من معاناتهم؛ إذ تعيش البلاد ويلات حرب مستمرة منذ ثلاث سنوات بين القوات الموالية للرئيس “عبد ربه منصور هادي”، المدعومة من قوات التحالف بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات، وحركة الحوثيين، المدعومة من إيران.

دراسات مرجعية

فحص الباحثون 116 حالة، ضمن السياق التطوري السلالي لمجموعة عالمية تضم 1087 عينةً معزولةً من البكتيريا المسببة للوباء السابع.

وشملت الحالات 42 مريضًا من اليمن أصيبوا بالعدوى في عامي 2016 و2017، منهم 39 من ثلاث محافظات رئيسية و3 حالات من معسكر لجوء بالحدود السعودية، علاوة على 73 حالة تم جمعها من دراسات مرجعية لبعض الدول التي أصيب سكانها بالكوليرا، وتنقسم تلك الحالات إلى 6 مُصابين من فرنسا، و11 مُصابًا من العراق و14 مُصابًا من جنوب السودان، و10 من كينيا و3 من السعودية و29 من الهند.

ووفق منظمة الصحة العالمية، هاجمت “الكوليرا” اليمن على موجتين منفصلتين أحدثتا تفشيًا وبائيًّا، وقعت الأولى بين أكتوبر 2016 وإبريل 2017، وتسببت في وفاة 129 حالة وإصابة 25800 حالة، ثم تلا تلك الموجة تفشٍّ ثانٍ أسفر عن إصابة 1.33 مليون حالة و2.641 حالة وفاة حتى نوفمبر الماضي.

نظام مراقبة عالمي

نجح الباحثون في تحديد نوع السلالة الحالية من الكوليرا في اليمن، مشيرين إلى أنها “نوع واحد، وقالوا إن مصدرها هو شرق أفريقيا، المرتبط باليمن عن طريق حركات الهجرة والتجارة المستمرة”.

وقالت الدراسة إن سوء الأوضاع الصحية في اليمن أدى إلى انتشار الوباء القادم من شرق القارة السمراء بشكل سريع.

وعلاوة على تحديد مصدر الكوليرا، نجح الباحثون في تحديد نوع المُضادات الحيوية التي يُمكن استخدامها لمحاربة فاشية الكوليرا اليمنية، وقالوا إن سلالة الكوليرا في اليمن أظهرت مُقاومة لثلاثة أنواع من المُضادات الحيوية: نيتروفيورانتوين، فيبروستاتيك O/129، وحمض الناليديكسيك، فيما نجح 17 نوعًا من المضادات الحيوية في القضاء على البكتيريا المُسببة للمرض، أبرزها (البوليمكسين ب Polymyxin B)، وهو نوع من المضادات الحيوية رخيص السعر وذو فاعلية كبيرة في محاربة البكتيريا والفطريات والتهابات السحايا.

الكوليرا في اليمن
الكوليرا في اليمن

يقول “فرانسوا كزافييه ويل”، الباحث في مجال الأوبئة بمعهد باستير الفرنسي، والمؤلف الأول للدراسة: “إن النتائج قدمت إعادة بناء للمسار الذي انتشرت من خلاله سلالة الكوليرا التي ضربت اليمن خلال الأعوام الماضية”.

ويضيف في تصريحات لـ”للعلم”: إن الدراسة تهدف إلى التوصل إلى “فهم أفضل للكيفية التي تنتشر بها مُسببات الكوليرا حول العالم”، مؤكدًا أن فهم طريقة انتشار البكتيريا سيُسهم في الحد من الإصابات مستقبلًا.

استغرق العمل في الدراسة 3 سنوات كاملة، وشارك فيها باحثون من مصر والسعودية والولايات المتحدة الأمريكية واليمن والهند، ويقول “فرانسوا” إن نتائجها جاءت ضمن مبادرة عالمية تهدف إلى إقامة نظام مراقبة عالمي للكوليرا، “تنطلق فيه مكافحتها على أساس معرفة تسلسلها الجيني عبر عزل فاشيتها المرضية”، وتشترك فيها منظمة الصحة العالمية ويونيسف ومنظمة أطباء بلا حدود والعديد من الهيئات الصحية الأخرى.

ووفق “فرانسو”، لن تُسهم نتائج الدراسة في الوقت الحالي في أي تغيير في وضع انتشارها في اليمن، خصوصًا في ظل تفاقم الأوضاع الصحية الأخرى، وتدمير نسبة لا بأس بها من المرافق الصحية نتيجة الاقتتال الأهلي هناك.

وتقول منظمة الصحة العالمية إن 45% من المرافق الصحية في اليمن تعمل بكامل طاقتها، فيما دُمِّرت تمامًا 17%، وتعمل 38% منها بشكل جزئي.

ويشير تقرير صادر عن المنظمة إلى أن نحو 4.5 ملايين شخص يحتاجون إلى خدمات صحية متعلقة بسوء التغذية، ووصف رؤساء الهيئات الصحية الثلاث التابعة للأمم المتحدة (يونيسف وبرنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية) الوضع في اليمن بأنه “مزيج في غاية القساوة”.

ووفق بيان صحفي صادر عن اليونيسف: “إن البلاد على حافة الوقوع في مجاعة؛ إذ يعيش أكثر من 60 في المئة من السكان في حالة عدم يقين حول وجبتهم القادمة، كما يعاني حوالي مليوني طفل من سوء التغذية الحاد الذي يجعلهم أكثر عرضةً للإصابة بالكوليرا، فيما تؤدي الأمراض إلى زيادة سوء التغذية”.

وعلى الرغم من أن الوضع يشكل خطرًا جسيمًا، يقول التقرير ذاته إن الأمل لا يزال موجودًا، فأكثر من 99% من الأشخاص المشتبه في إصابتهم بمرض الكوليرا يستطيعون الحصول على الخدمات الصحية، إلا أن المنظمات الأممية تدعو إلى “بذل الجهود المستدامة لوقف انتشار الكوليرا في اليمن”.

موجة ثالثة محتملة

ووفق موقع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، يُعَد اليمن اليوم “أكبر مأساة إنسانية في العالم، إذ هناك أكثر من 20 مليون شخص بحاجة إلى المساعدة ويواجهون تحديًا مع الزمن في ظل استمرار الحرب في اليمن”.

وتقول اللجنة إن دمار البنية التحتية بلغ حدًّا جسيمًا “نجم عنه حرمان ذوي الأمراض المزمنة من الحصول على العلاج المنقذ للحياة”، مشيرةً إلى أن انقطاع المياه عن بعض المدن أدى إلى “ظهور الكوليرا وتكاثرها”، مؤكدةً أن نحو 14.8 مليون شخص يمني يفتقرون إلى الحدود الدنيا من الرعاية الصحية في الوقت الراهن.

ونقلت وكالة “رويترز” عن المدير التنفيذي لبرنامج الطوارئ الصحية في منظمة الصحة العالمية “بيتر سلامة” قوله: “إن اليمن ربما يكون على شفا موجة ثالثة كبيرة من وباء الكوليرا”.

وقالت الوكالة في تقريرها المنشور أغسطس الماضي إن اليمن لم يشهد قَط حملة للتطعيم ضد الكوليرا عن طريق الفم، ووفق “بيتر”: إن التفشي على ذلك النطاق الهائل “ربما يكون قد ساعد على تقوية المناعية من الكوليرا بين السكان”، إلا أنه عاد وأكد أن “أنظمة المناعة لدى اليمنيين ضعفت بسبب أمراض أخرى، إضافة إلى سوء التغذية”، مؤكدًا أن المستقبل “لن يشهد فحسب زيادة في عدد الحالات، بل ستزيد معدلات الوفيات بين حالات الإصابة بالكوليرا؛ لأن الناس لم يعد لديهم المزيد من الموارد المادية التي تمكِّنهم من محاربة المرض”.

المصدر : للعلم – سانتيفك امريكان 

عن الكتّاب

 محمد منصور

محرر علمي درس الهندسة الميكانيكية بجامعة حلوان المصرية. وحصل على دورات متخصصة في الصحافة العلمية من جامعة ييل، ودورات في مجال صحافة الطاقة في جامعة ستانفورد، يركز في عمله على القضايا العلمية المرتبطة بالتنمية المجتمعية وقضايا التغير المناخى.

 

 

شاهد أيضاً

العواصف الرملية

العواصف الرملية تسونامي  الصحراء

    خلال الأسابيع الماضية شهدت الجزيرة العربية وبعض المناطق المجاورة والمحاذية لها  موجة من …